هذه العادة قديمة قدم الجنس البشري، وكما يقول المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في كتابه قصة الحضارة:
(والظاهر أن التضحية بالإنسان، قد أخذ بها الإنسان، في كل الشعوب تقريباً؛ فقد وجدنا في جزيرة كارولينا في خليج المكسيك، تمثالاً كبيراً معدنياً أجوفاً، لإله مكسيكي قديم؛ فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية، لا شك أنها ماتت بالحرق، قرباناً له، وكلنا يسمع بـ (ملخ) الذي كان الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهما من الشعوب السامية حيناً بعد حين يقدمون له القرابين من بني الإنسان (قصة الحضارة ـ ويل ديورانت ـ الجزء الأول ـ ص113 ـ 114.).
وتذكرنا موقف عمر بن الخطاب أثناء الفتح الإسلامي لمصر مع العادة التي كانت سائدة هناك، بتقديم فتاة سنوياً، تلقى على قيد الحياة للنيل، بدعوى خصوبته، وقذفه بالطمي المناسب للزراعة؛ فلما سأل عمر ـ رضي الله عنه ـ لماذا يفعلون ما يفعلون؛ فشرحوا له ذلك، قام الفاروق بإرسال رسالة إليهم، طلب منهم أن يلقوها في النيل، وكان فيها ما يلي: (من عبد الله ـ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ـ إلى نيل مصر: يا نيل إن كنت تجري بسنة الله فاجر كما كنت تجري، وإن كنت تجري بسنة الشيطان؛ فلا حاجة لنا بجريانك)؟.
أنقذت الفتاة المصرية ذلك العام من الموت غرقاً، وفاض النيل حتى امتلأت جوانبه، وأبطلت تلك العادة منذ دخول الإسلام أرض مصر.
لعل مصدر فكرة (القربان) هو الخوف من الطبيعة عند الإنسان البدائي، الذي لم يستطع تفسير الظواهر الكونية التي أرعبته؟
يقول ديورانت (الخوف كما قال لو كريشس أو أمهات الآلهة، وخصوصاً الخوف من الموت؛ فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار، وقلما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية؛ فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل، كانت كثرة من الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية، وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة (ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ جزء أول ـ ص 99).
ومن جملة الإشكاليات العقلية للعقل الإنساني البدائي (الطفلي) أن ذبح الإنسان ورش دمه في الأرض وقت البذر يجعل الحصاد أفضل (ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ الجزء الأول ـ ص 113 وعند هنود جواياكيل كان يضحى بالرجل في وقت البذر حتى تخضب الأرض بدمائه، حتى إذا حل موسم الحصاد فسروه بأنه بعث الرجل الذي مات ضحية).
ولذا فإن ظاهرة القربان البشري كانت شيئاً مكررا في التاريخ، في حل لإشكالية فهم الطبيعة، أو في حل إشكالية أضخم من ذلك، حيث نشأت بذور الحرب كمرض كرموسومي مرافق لولادة الحضارة الإنسانية (الخطأ الكروموسومي هو خطأ في نفس تركيب الخلية، حيث تعتبر الكروموسومات هي الشيفرة السرية للتخطيط الهندسي الكامل للبنية البيولوجية، وبذلك فإن المرض البكتريولوجي يعتبر بسيطاً لأنه طارئ ويعالجه البدن، أما الخطأ الكروموسومي فقد أصبح من تركيب البدن بالذات؛ فلا أمل في معالجته إلا بتقنيات رهيبة يسعى لها العلم جاهداً اليوم).
والتضحية بالإنسان كان له مبرران: الأول على النحو الذي ذكرنا، والثاني لأكله!! وهو معروف وشائع (الكانيباليزم)، بل لا تزال بعض بقايا القبائل التي أدركها التاريخ المعاصر عندها هذه الظاهرة، وهي حقيقة لا نكاد نتصورها ولكنها واقعة مسجلة!!(جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت: ولما مر "بيير لوتي" بجزيرة تاهيتي أخذ رئيس كهل من رؤساء البولينزيين يشرح له طعامه فقال: إن مذاق الرجل الأبيض إذا أحسن شواؤه كمذاق الموز الناضج، وأما في جزيرة بريطانيا الجديدة؛ فقد كان اللحم البشري يباع في الدكاكين، كما يبيع القصابون اللحم الحيواني اليوم، وكذلك في بعض جزر سليمان كانوا يسمنون من يقع في أيدهم من الضحايا البشرية، وخصوصاً النساء، ليولموا بلحومهم الولائم كأنهم الخنازير. ص 20 الجزء الأول).
وعلينا أن نتذكر الآية وهو يعالج مرض الغيبة أنه هل يُعقل أن يأكل الإنسان لحم أخيه مذكرا بتاريخ سيء للإنسان؟
إلا أن (ظاهرة الحرب) أصبحت قرباناً هائلاً مخيفاً، من نوع جديد، وكانت إفرازاً لتكون الدولة، ونمو الحضارة في فجر التاريخ البشري؛ فالدولة نشأت على العنف، إلا أنها وحسب الخط الذي بنيت عليه، أصيبت من نفس العلة بعدوى العنف، إنما بشكل آخر؛ ففي الوقت الذي استطاعت الدولة توفي الأمن الداخلي لأفرادها النائمين في كنفها، نقلت العنف إلى مستوى الاصطدام مع الدول الأخرى، ويبقى هذا العنف المسيطر عليه ضمن الدولة الواحدة، كامنا تحت الرماد، حتى ينفجر بأفظع صورة وإطار في صورة الحرب الأهلية (راقب تفجيرات العراق وحرب سوريا ومصيبة إيران وحزب الله) كما يعرف ذلك مؤرخو الحروب الأهلية، كما في الحرب الأهلية الأمريكية ـ الإسبانية ـ الروسية أو أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا بعد نهاية القذافي الدموية جدا؟
لقد شاهدنا في رواندا حيث تم مسح 200 ألف إنسان من خريطة الحياة في مدى أسابيع قليلة، أو في سجل العار في البوسنة وكوسوفو؟!.
إن فداء إسماعيل، ومشروعية الأضحية، إعلان ضمني للسلام العالمي، والله لن يأكل اللحم ولن يشرب دم الأضحية، بل النية والتقوى (لن ينال الله لحومها ولا ماءها ولكن يناله التقوى منكم).
إن مظاهرة الحج الكبرى هي قمة السلم في الاجتماع الإنساني؛ فليس هناك من مدينة على وجه البسيطة إلا ومنها حاج، قد جاء على ضامر بشكل أو آخر، قد تصل إلى طائرة الكونكورد، وقد تكون ضامرات المستقبل الصواريخ، أو القطارات المغناطيسية الطائرة.
وكما يجتمع المسلم مع أخيه المسلم في حلقات تكبر بشكل متصاعد، بدءاً من حلقة الحي في المسجد، ومروراً بصلاة أهل البلد الواحد معاً خارج البلدة في صلاة العيد؛ فإن الحج الأكبر هو اللقاء الكوني الأعظم، ولذا ناسبه خطاب عالمي، ومن أهم خطاباته إعلان السلام العالمي.
إن جوهر الحج لا يدركه كثير من المسلمين، الذين يحرضون على تأديته، حيث يجب أن يحقق الحج بهذه المعاني الضخمة، التي كرسها، لتكون ينابيع للشحن الروحي السنوي لكل العالم الإسلامي، الذي هو في غابة فعلية من العنف المدمر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق